بلغراد شهدت مذبحة كروية. إنجلترا سحقت صربيا بخمسة أهداف نظيفة في ليلة لن تُنسى من تصفيات كأس العالم. توماس توخيل، المدرب الألماني الذي طالته انتقادات بسبب أسلوبه “المملّ”، قدم الرد الأقوى على كل من شكك في قدراته.
الانتصار لم يكن مجرد أرقام. خمسة أهداف تعكس هيمنة كاملة، تنوعاً في الأداء، وعمقاً في المواهب. المنتخب الإنجليزي ظهر بوجه جديد مفعم بالحيوية والإبداع الهجومي، مخالفاً تماماً للصورة النمطية التي رسمها الإعلام البريطاني.
ملعب “راجكو ميتيتش” لم يكن مضيافاً في البداية. صربيا نظّمت دفاعاً محكماً بنظام 5-4-1، جدار بشري صلب اعتمد على التدمير والانتظار. المهمة بدت صعبة أمام الهجوم الإنجليزي في الشوط الأول، والصبر كان مطلوباً.
توخيل أظهر مرونة تكتيكية كبيرة. الضغط العالي عقب فقدان الكرة كان واضحاً، لكن الخرق الحقيقي للدفاع الصربي تطلب وقتاً وذكاءً استراتيجياً. اللاعبون بحثوا عن الثغرات بصبر، والفرصة جاءت في الدقيقة 33.
هاري كين فتح الطريق بلمسة فنية. ركنية استغلها القائد بضربة رأس منخفضة أظهرت خبرته الكبيرة في استغلال الكرات الثابتة. الحركة داخل المنطقة، التوقيت المثالي، والتنفيذ الاحترافي، كلها عناصر تعكس لماذا يُعتبر كين واحداً من أفضل المهاجمين في العالم.
الهدف الأول كسر الحاجز النفسي. الدفاع الصربي المحكم انهار، والمساحات بدأت تظهر. الجمهور الصربي لم يكد يستوعب الصدمة حتى فاجأه ماديوكي بالهدف الثاني في حركة هجومية رائعة.
الهجمة التي أدت للهدف الثاني كانت تحفة فنية. تداول انسيابي للكرة عبر أندرسون والمتألق روجرز، قبل أن ينهيها ماديوكي بلمسة أنيقة سجل بها هدفه الدولي الأول. التوقيت المثالي، بعد دقائق قليلة من الهدف الأول، أظهر الروح المعنوية العالية للفريق.
تغييرات توخيل تُؤتي ثمارها
اختيارات توخيل في التشكيلة أثبتت صحتها. أربعة لاعبين جدد مقارنة بمباراة أندورا: روجرز، جوردون، ليفرامينتو، وكونسا. جميعهم أظهروا مستوى متميزاً يبرر ثقة المدرب الألماني. التدوير الذكي أضاف نفساً جديداً وحيوية أكبر للأداء.
الجلوس على مقاعد البدلاء للاعبين مثل بيرن، لويس-سكيلي، إيزي، وراشفورد لم يكن عقاباً. جزء من استراتيجية شاملة لإدارة المجموعة والحفاظ على اللياقة البدنية والذهنية لجميع عناصر الفريق. توخيل يفكر بعيداً، ويدير لاعبيه بحكمة.
الشوط الثاني بدأ بمحاولة صربية للعودة. المدرب دراجان ستويكوفيتش أدخل كوستيتش ويوفيتش، لكن التغييرات جاءت متأخرة جداً. الرد الإنجليزي كان سريعاً وقاسياً.
كونسا أضاف الهدف الثالث في الدقيقة 52 بعد تمريرة من جويهي. التفاهم المثالي بين خط الدفاع الإنجليزي ظهر بوضوح، وحتى المدافعون أصبحوا يساهمون في التسجيل. الهدف الثالث كان المسمار الأخير في نعش آمال صربيا.
الدقيقة 65 شهدت نقطة تحول أخرى. طرد ميلينكوفيتش بسبب عرقلة كين خارج منطقة الجزاء. القرار التحكيمي الصائب ترك صربيا بعشرة لاعبين، والمذبحة الكاملة كانت مسألة وقت فقط.
النقص العددي فتح المجال أمام إنجلترا لإظهار كامل قوتها الهجومية. الاستفادة من الرجل الإضافي كانت مثالية، واللاعبون الإنجليز أظهروا نضجاً تكتيكياً في استغلال المساحات الإضافية.
الليلة كانت مميزة للمواهب الشابة. ماديوكي، كونسا، وجويهي سجلوا أهدافهم الدولية الأولى في نفس المباراة. ثلاثة لاعبين يدخلون التاريخ في ليلة واحدة، إنجاز يعكس عمق المواهب في الكرة الإنجليزية.
هذا التنوع في مصادر الأهداف يُظهر تطوراً كبيراً. المنتخب الإنجليزي لم يعد يعتمد على نجم واحد، بل أصبح فريقاً متكاملاً يمكن لأي لاعب فيه أن يحدث الفارق. هذا العمق مهم جداً للبطولات الكبرى.
راشفورد وضع اللمسة الأخيرة
راشفورد وضع اللمسة الأخيرة بهدف من نقطة الجزاء في الدقيقة 90. الهدف الخامس لم يكن مجرد إضافة رقمية، بل رمزاً لعمق المقعد الإنجليزي. التنفيذ بثقة تامة يعكس الروح المعنوية العالية.
الفوز يضع إنجلترا في موقع مثالي. تصدر المجموعة بفارق سبع نقاط عن أقرب منافسيها ألبانيا. التأهل لكأس العالم بات شبه محسوم، وتوخيل يملك الآن مرونة أكبر في التجريب والتحضير.
الأداء المتكامل يبشر بمستقبل مشرق. التوازن بين الخبرة والشباب، الفلسفة التكتيكية الواضحة، والعمق في جميع الخطوط، كلها عوامل تضع إنجلترا ضمن المرشحين الجديين للقب كأس العالم.
الخماسية في بلغراد لم تكن مجرد فوز كروي. رسالة قوية لجميع منتقدي توخيل ونهجه التدريبي. الليلة أثبتت أن الصبر والعمل المنهجي يؤتيان ثمارهما، وأن النقد المتسرع قد لا يعكس الصورة الحقيقية.
توخيل أسكت الجميع بالطريقة الوحيدة المقنعة: النتائج على الملعب. الانتقادات تحولت إلى احتفالات، والشكوك تحولت إلى ثقة مطلقة. الألماني أثبت أنه يعرف ما يفعل، وأن الأسود الثلاثة في أيدٍ أمينة.
بلغراد ستبقى محفورة في ذاكرة الكرة الإنجليزية. ليلة تحولت فيها كل الأحاسيس السلبية إلى فرحة جماعية. إنجلترا تحلم من جديد، وتوخيل يقود المركب نحو المجد المنشود.


